في حوار أجري مع أسطورة السينما الإيطالية وأحد أهم ملهمي السينمائيين الحاليين فيدريكو فيلليني في بداية الثمانينيات اقتطفت لكم هذه الجمل التي وجدتها أهم ما ورد في الحوار الذي صدر مؤخراً ككتاب بعنوان حوار مع فيدريكو فيلليني أجراه الصحفي الإيطالي جوفاني غرازيني وترجمه إلى العربية الناقد السينمائي أمين صالح وصدر في الدورة السادسة من مسابقة أفلام من الإمارات عام 2007
يقول فيلليني:
المعروف عن الروماني أنه شخص حسي، سخي، اجتماعي، يوجّه انتباهه نحو ما هو خارج عن الذات.. شخص محب للرفقة و المحادثة و موائد العشاء، سريع الاستجابة تجاه السعار السياسي.. و هو التجديفي الذي يعلن إلحاده لكنه يرسل زوجته و بناته إلى الكنيسة لأن شخصا ما في العائلة يتوجب عليه أن يبقى على اتصال مباشر مع ذلك الشيطان الذي خلقه الرب.
ربما التخوم الكابحة، المحيطة بي اليوم، ناشئة من واقع أنني لم أتنفس أبدا، في سنوات التكوّن الأولى، المعنى الحقيقي للديمقراطية خارج نماذج هي بعيدة كبعد الخيال العلمي. من دروسي الإغريقية، من الفلسفة، تعلمت الكثير عن الدولة المدينية، حكم الشعب، أثينا، الحقوق و الواجبات، أفلاطون، بيريكليس، سقراط، المنهج السقراطي.. لكن الديمقراطية كممارسة و سلوك، أو كما كنا نلمحها في الأفلام الأمريكية، فإنها لم تكن جزءا متمما من ثقافتنا.
في الأفلام الأمريكية، نجد أن من يحمي القانون هو عمدة البلدة و كل المساعدين الذين يمتطون جيادهم و يطاردون الأشرار. أو كما هو معمول في المدن الكبيرة حيث ناطحات السحاب، و الأفراد المشغولين في مكاتبهم، حيث المهن و الكرامة و الرفاهة و الحرية التي فيها يمكن التخطيط بجسارة لوجود من الطراز الأول.
أو تلك الأسطورة الأنجلو- سكسونية عن الديمقراطية التي يتنفسها أطفالهم منذ بلوغهم الستة أشهر من أعمارهم، متعلمين احترام، إن لم يكن تقاسم، قرار الأغلبية، ذلك لأن لديهم الوسيلة لأن يصبحوا أغلبية و لأن يغيروا مجرى التاريخ.
نحن ربما نفتقر إلى كل دروس الحضارة و الوعي تلك، و هذا الافتقار تركنا، بطريقة أو أخرى، مع قناعة راسخة بأن السياسة ينبغي أن يمارسها الآخرون، الذين يعرفون كيف يتعاطونها.
في تلك الحكاية الشرقية “صبي الساحر”، يصل الإنسان إلى كتاب المعرفة بعد عناء و مشقة ليكتشف أنه مؤلف من صفحات هي عبارة عن مرايا، و هذا يعني أن السبيل الوحيد لإحراز المعرفة هو أن تعرف ذاتك.
من بين كل الأشخاص المشهورين هناك لم أعرف سوى فيتاليانو برانكاتي، الروائي الصقلي الساخر، و الذي كان علينا في المدرسة أن نحفظ عن ظهر قلب وصفه للزيارة التي قام بها إلى الزعيم موسوليني، و له صورة فوتوغرافية تظهره واقفا إلى جانب الزعيم.
طالما أن مجلة مارك أوريليو لم تتعرّض للقمع أو الحظر، و لم تُتهم بالتحريض على الثورة، فإن إجابتي لابد و أن تعكس الجهل الفج لطالب ريفي غرّ تربّى على يد الكنيسة و النظام الفاشي. الأفكار الوحيدة التي كانت لديّ بشأن الحرية و الثورة برزت عندما تم منع مقالة صغيرة لي من النشر، و هي عبارة عن رسائل من فتاة إلى خطيبها الجندي في الخطوط الأمامية. بعد المقالة الثالثة تدخّل الوزير بافوليني و التقى بي و مدير التحرير دي بيليس حيث أخبرنا غاضباً بأن الفتاة عاطفية بشكل مفرط و خطابها سيؤدي إلى إضعاف الروح المعنوية في جبهة القتال، ثم قال آمراً: لا مزيد من هذه الكتابات. هكذا اصطدمت، للمرّة الأولى، بغباء و سخف الرقابة.
منذ أن كنا في روضة الأطفال، الحرب بالنسبة لنا كانت ذات بُعد ميثولوجي، كانت تبدو الطريقة الوحيدة للحياة. لسنوات طويلة تعلمنا من الكنيسة و من الفاشية أسطورة الرومان، الصلب، الموضع الذي صُلب فيه المسيح، لا جدوى الحياة، جلال البطولة، التضحية من أجل الوطن، الجنود المجهولين المبتورة أطرافهم، “ليس ضروريا أن تعيش، عليك أن تحارب فحسب” أو شيء من هذا القبيل.
كان الوضع هذيانا محيّرا و مستمرا، إنكارا للحياة و مظاهرها اليومية الرقيقة و البسيطة. “عاشت الحرب” و “ذلك الذي يموت في سبيل الوطن، عاش حياته بشكل جيد”.
كيف يمكن للمرء أن يلمح شيئا مختلفا من خلال ذلك الضباب المشؤوم؟ الحرب كانت تبدو أشبه بمهرجان، عيد بُشّر به منذ عهد بعيد و الذي حان أخيرا. من جهة أخرى، فعلت كل ما بوسعي لأن أتجنب الدعوة. و قد نجحت في ذلك عن طريق رشوة الأطباء و التظاهر بإصابتي بأمراض غامضة.
السيناريو هو الذي جاء إليّ ليغويني. في تلك الفترة ظننت أن السينما الإيطالية فد انتهت. لقد تحررت إيطاليا و كل شيء صار تحت سيطرة الأمريكان: الصحف، الإذاعة، المسارح. و على الشاشة لم تظهر سوى أفلامهم، و هذا كان مصدر سعادة للجمهور الذي لم ينس أبدا نجوم هذه السينما الحقيقية، السينما التي جلبت لهم التسلية و الأحلام و المغامرات و الهروب. أما نحن، فمن كان لدينا من النجوم؟ بيسوزي، فياريسيو، ماكاريو، جريتا جوندا (التي كنت أحبها كثيرا، كما أحببت ليدا جلوري كثيرا).. كيف كان بإمكان نجوم السينما الإيطالية آنذاك أن ينافسوا جاري كوبر، كلارك جيبل، الإخوة ماركس، شارلي شابلن، و كل النجمات الحسناوات مع مخرجيهم و كتـّاب سيناريو أفلامهم؟ كنت واثقاً من أن السينما الإيطالية قد انتهت و لن نسمع عنها ثانية.
الجنود الأمريكان كانوا عنيفين، كرماء، و ثملين على الدوام تقريبا، لكن يمتلكون حس دعابة تجعلنا نشعر بالارتياح. عندما يشاهدون أنفسهم في أوضاع كاريكاتورية مرسومة في محلنا، كانوا يستغرقون في ضحك متواصل لا ينقطع. و قبل أن يغادروا المحل، يتركون على الطاولة، إلى جانب المدفوعات بالليرة لقاء أسعارنا المضاعفة، شيئاً من لحم البقر المملّح، الفاصوليا و الخضروات، علب بيرة، و تلك العلب الملوّنة على نحو زاه من السجائر الأمريكية، الطيّعة و ناعمة الملمس مثل ذراع امرأة. لو أُتيح لنا أن نتلمّس و نتحسّس علب السجائر تلك، قبل الحرب، لأدرك الجميع بأننا سوف لن نربح الحرب أبدا.
الأسماء التي رغبت حقا في العمل معها: ماي ويست، مع تلك المشية المتغطرسة، و ذلك الوجه الطفولي المدوّر و الشره. الأخوة ماركس. الإيطالي روبرتو بنيني الذي هو شخصية مثيرة، ولد صغير و شرير من توسكان، ماكر و قليل الاحترام للآخرين، مهرج ضئيل و رابط الجأش، عاطفي على نحو رومانتيكي، عملي، بإمكانه أن يضطلع بأي دور و يجعله قابلا للتصديق من بلوتُس (كاتب مسرحي هزلي روماني) إلى حكايات هانز كريستيان أندرسون الخرافية. من بين كل الممثلين الهزليين من الجيل الجديد بنيني هو الأكثر أصالة و موهبة، و الأقرب إلى أن يصبح شخصية يتعذر محوها.
الشيء الأساسي في تحقيق فيلم واقعي جديد هو احترام الواقعية مهما كلـّف الأمر بوصفها حدثاً وجوديا مقدّسا، راسخا، غير قابل للتغيير، و محظورا مسّه. المشاعر الشخصية، الضغوطات الذاتية، الحاجة لأن تختار، لأن تعبّر عن الحس الفني.. كلها خاضعة هنا للسياسة: فلتسقط الذاكرة، التأويل، وجهة النظر، الخيال. فليعاقب المبدع!.. التبطل و الجهالة و الكسل جعل الجمالي الجديد مقبولا بحماسة. أي شخص بإمكانه أن يحقق أفلاما. كل شخص ينبغي أن يحققها.. جمالية اللا جمالية، و التي ساهمت بدور كبير في الأزمة الراهنة لسينمانا.
في فيلمي القصير اخترعت وكالة زواج، و فتاة –لكي تتزوج- يتعيّن عليها أن تقبل الزواج بمستذئب. أقسمت أن كل ما يحكي عنه الفيلم حقيقي. و عندما عرضت المونتاج الأوّلي للجزء الذي حققته، جاء نقاد السينما اليساريين راضين و مسرورين جدا: “هل لاحظت، أيها العزيز فلليني، إلى أي مدى يكون الواقع أكثر خيالية من كل تلك الفنتازيا الجامحة، المنزوعة اللجام؟”
لا أعرف كيف أصنع فيلما في أمريكا. حتى لو كانت بلادهم تأسرني و تغويني، و تبدو لي أشبه بموقع هائل ملائم لرؤيتي للأشياء، فإنني لا أعرف كيف أرويها في فيلم. نيويورك! إنها مركبة فضائية هائلة، مذهلة، محرّرة في الكون. ليس لها جذور أو عمق، لكنها متدلية على صحن بلـّوري لا متناه. هي فينيسيا و دمشق و بنارس.. هي كل مدن العالم مندمجة معا.
نيويورك عذبة، عنيفة، جميلة، رهيبة.. لكن كيف أسردها؟
في أمريكا تأتي الأفكار إليّ عبر لغة ليست لغتي، عبر واقع لا أعرف تلميحاته و إشاراته و التي تفلت مني نحو مستوياتها المتراصفة الخاصة، و نحو مكوّنات جذورها. إخراجي للأفلام هو عمل يقتضي التضلّع التام في لغة تنتج رؤية للعالم، أساطيره، تخيلاته الجماعية.
بالتأكيد أنا لا أزعم بأني أعرف كل شيء عن إيطاليا، لكن على الأقل هنا أنا استحضر جهلي، عواطفي، مشاعري. هنا أنا سيد حتى تلك الأشياء التي لا أعرفها. أستطيع القول
عن شخص بأنه من برجامو بمجرد النظر إلى ربطة عنقه. حسنا، ربما أبالغ هنا بعض الشيء.
نعم، أعرف أن ميلوش فورمان، رومان بولانسكي و آخرين قد نجحوا في الانخراط كليا في الثقافة الأمريكية و في التعبير عنها، لكن هؤلاء جاءوا من عالم مختلف. إنهم يهود، من أوروبا الوسطى.. ينحدرون من أبعاد نفسية و ثقافية استطاعت تعويدهم و تأهيلهم ليعيشوا في أي مكان و يتعايشوا مع الآخرين بحيث يكونون أكثر وطنية من مواطني البلد أنفسهم. لديهم دائما تلك الموهبة الخاصة التي تتيح لهم امتصاص تاريخ و ثقافة و ذكريات الآخرين. في الواقع، هم أصبحوا أمريكيين أكثر من الأمريكان.
قبل 25 سنة تعاقدت على مشروع مع ثلاثة منتجين أمريكان مفعمين بالحماسة و الذين قرروا الابتعاد عن الشركات الرئيسية و سياساتها الإنتاجية و صنع أفلام وفق النمط الإيطالي. فالواقعية الإيطالية الجديدة كانت قد أسرتهم و أثارتهم إلى حد أنهم قرروا الخروج من الاستوديوهات و العمل في مواقع خارجية مع قصص واقعية و أفراد حقيقيين “من الشارع”.. هكذا كان التعبير الشائع في تلك الأيام.
بعد معارضة شديدة، وافقت أن أوقـّع معهم عقد عمل يتضمن الإقامة في أمريكا لمدّة 12 أسبوعا، بعدها أكون جاهزا لتصوير الفيلم أو أعود إلى بلادي. كانوا على يقين تام من أن الاحتمال الثاني لن يكون واردا على الإطلاق.
هكذا بدأت تجوالي حول الولايات المتحدة. و قد وضعوا تحت تصرفي سكرتيرات، مترجمين، أصدقاء، صحفيين، و الأكثر إثارة للإعجاب: مرافقي، رجل المافيا السابق، الذي يدعى سرينيللا. لابد أنه كان في السبعين، غير أنه يتمتع بنشاط و قوة، وجهه مكفهر أشبه بوجوه المصارعين الرومان في الأزمنة الغابرة، و على وجنتيه تبدو آثار الجدري. شعره الأبيض، بدلا من أن يضفي عليه لمسة نبالة، يجعله يبدو أكثر دهاء و مراوغة. مع ذلك كان عاطفيا على نحو لا يصدق، يتأثر بمجرد النظر إليّ. نفوذه هائل إلى حد أنه كان يخيفني أحيانا. كان يلبّي على الفور كل ما أطلبه منه. لم تكن هناك قيود أو حدود. حتى الأشياء المستحيلة التي أطلبها بدافع استفزازه و إثارة غيظه. لقد كان في ما مضى زعيما هاما و مهيبا، يملك فندقين في لاس فيجاس. كان مثار إعجاب و خوف. لكن عندما يدندن بالثيمة الموسيقية لشخصية جيلسومينا (في فيلم:الطريق) كانت عيناه تغرورقان بالدموع.
بعد شهر مسّني ذلك الوجع الذي يحدثه الحنين إلى الوطن. كنت أقضي أوقات ما بعد الظهيرة في غرفتي بالفندق أجري اتصالات هاتفية مع كل أصدقائي في روما، حتى أقاربي و معارفي، بل حتى أولئك الذين انقطعت علاقتي بهم قبل سنوات. كنت أحنّ إلى أشياء صغيرة –و كم كان ذلك موجعا و معذباً-
أحببت أمريكا كثيرا.. هي التي أغوتني، سحرتني. كان يبدو لي أن كل شيء هناك جاهز الصنع، مثل موقع هائل مصنوع سلفاً بكل مشاهده الكاملة، المضاءة بإتقان، و المصممة على نحو أنيق، الكثير من الأفكار خطرت لي، و عندما أبوح بها للمنتجين كانوا يبدون حماسة شديدة. لكنني شعرت بأن ليس بالإمكان تجربة شيء و سرده، أن تعيش تجربة و تعبّر عنها في الحال. ليس لدي الموهبة أو الكفاءة التي يتمتع بها الصحفي. إن فرصي للاتصال عبر هذا المستوى هي معدومة تقريبا. علاوة على ذلك، لا أعتقد أنني قادر أن أكون صحفيا جيدا إلا إذا اخترعت الأشياء و القصص.
هكذا، متصرفا مثل فتاة عُصابية هشة، أعلنت لهم رغبتي في العودة إلى الوطن بعد أربعة أسابيع فقط، مبررا ذلك بأنني لم أعد أعرف كيف أكون مخرجا، لم أعد أعرف كيف أحقق الأفلام. سرينيللا ، بقبعته العريضة السوداء، و لفاعه الحريري الأبيض، و سترته ذات الياقة المخملية، رافقني إلى المطار. لم ينبس بحرف، لم يعلـّق، بل تقبـّل قراري و احترمه، مقتنعا بأنني لم أتخذ هذا القرار إلا لمصلحتي الشخصية، واثقاً بأن هناك أمراً أكثر أهمية بالنسبة لي، أكثر فائدة، “أكثر نقود”، في قراري بالرحيل.
لقد تعوّدنا في إيطاليا على التضحية بحريتنا، و لا أظن أن لدينا الطاقة أو الصبر لاحتمال البلادة المخزية و الحماسة الرقابية التي يتسم بها النظام الشيوعي.
عرض “أماركورد” في روسيا بعد بتر المشهد الذي يدور في دكان التبغ، و أيضا المشهد الذي فيه يمارس الفتيان العادة السريّة في سيارة قديمة. هكذا، لم يحرم الشعب الروسي من فيلمي بل من بعض قيمته. ذلك الجانب الفاشستي، المقيّد، الرقابي – الأكثر من كرسي الاعتراف و الأكثر ظلامية من الكنيسة- يجعل من الاتحاد أمرا مستحيلا.
ليالي كابيريا:
كان عليّ أن ألغيه بناء على أمر الكاردينال. واضح أن دوائر كاثوليكية معينة تشعر بالقلق و الانزعاج من فيلم يوجّه هذا النوع من الثناء و التقدير لرجل محسن و محب للبشر، غريب و لم يمسّه تأثير الكنيسة و نفوذها، بل يعمل خارج محيطها.
“الحياة الحلوة”
طقوس العربدة في المشاهد الختامية؟ لقد ظننت أن بيير باولو بازوليني خبير في هذه الأمور، لذا دعوته ذات ليلة على العشاء، و عندما سألته، اتضح أنه لا يعرف شيئا عن طقوس العربدة عند الفئات البورجوازية و لم يشارك قط في أية حفلة منها، كما لا يعرف أحدا بإمكانه أن يساعدني.
هكذا شرعت في تصوير المشهد دون أن تتوفر لدي أية فكرة عنها. لقد عوّلت على الممثلين، واضعا إياهم في مواقف غير مقنعة من الفسوق و الانغماس في الملذات. و كانت تعمل معي مساعدة هولندية، شابة جميلة، لا تفارقني بنظراتها المليئة بالرجاء اليقظ، منتظرة في استثارة أن تراني أصور عملا شائنا و فاضحا. بعد ساعتين من التصوير سمعتها تهمس في خيبة أمل: “فلليني يرغب أن ينفذ مشهداً إباحياً و لا يعرف كيف يفعل ذلك”.
ربما ذات مرّة كانت هناك خطة و التي صارت منسية منذ ذلك الحين، مثلما حدث مع خطة الكنيسة لتخليص الجنس البشري.
في البدء كانت الكلمة حتماً، لكن منذ ذلك الحين تم تركيب شبكة من الحرّاس و الشعائر التي جعلتنا ننسى ذلك. متاهة الطقوس وحدها هي التي بقيت، دون أن نعود نتذكـّر المدخل و المخرج أو حتى كيف نتحرك بداخلها. ربما علينا فقط أن نتحرك، بطريقة أو بأخرى، بحيث نحوّل ألمنا المبرح إلى غذاء لنا و للآخرين.. هذا يعلل فتنة روايات كافكا و بورخيس.
أولئك الذين ليسوا مثلي، الذين ليس لديهم نظرة علمية للأشياء، و لا يقيسون التقدّم بلغة المنطق، يكرّسون أنفسهم تقريبا للأحلام السارة أو لعقد الذنب القاتمة و التي تكشف، خلال الحياة اليومية، كما نعتقد، الإشعاع المبشّر به في رؤيا القديس يوحنا أو في نبوءات نوستراداموس.
الإغواء الأقوى هو أن تقول بأن المستقبل قد سبق أن انقضى. ربما لأنني قرأت الكثير من قصص الخيال العلمي. لكن أنا أيضاً شاركت أحياناً في العدوان الأحمق و تقاسمت الأنانية البغيضة، التي تتفشى في الجنس البشري أثناء تدميره للموارد الطبيعية في كوكبنا. المشهد فاجع و كوارثي، لكنني أقبله من وجهات نظر مختلفة، لأنني –كمخرج سينمائي- أجده مغريا، و كذلك بسبب المضايقات المستمرة من قِبل الكاثوليكية التي تحملناها لمدة 2000 سنة. علاوة على ذلك، فإن تقديم مبرر واه لعملية التقدم هو أمر غير كاف.. إنها مسألة تعصب و أنانية. هناك رغبة في ركوب سفينة نوح أخرى و السفر بها عبر مركز الكارثة مع عدد ممن تم انتخابهم من البشر و الحيوانات.
لدي فكرة غامضة و غائمة عن القيمة الحقيقية للمال، و علاقته بقيمة الأشياء. أشعر بلا مبالاة و عدم اكتراث بالأرقام الكبيرة (بالتالي فإني أنفق المال بحماقة و بلا حذر). من جهة أخرى، ردود فعلي تجاه المبالغ الصغيرة من المال تبدو سخيفة و لا معقولة، إذ أني أدفع هذه النقود بعد تردد و ممانعة كتلك التي يشعرها من يتعرّض للسرقة.
أظن أن نظرتي غير الواقعية للمال لها مشاعر متجذرة عميقاً في أجزاء من فترة شبابي المبكـّرة عندما وصلت بشق النفس إلى روما أثناء الحرب، مقتصداً في الإنفاق حتى لا أتخطى حدود دخلي. الحياة آنذاك تجربة درامية. في ذلك الوضع كانت قيمة المال مضخّمة جدا: ألف ليرة تعني سلاماً و هدوءا، تعني جائزة نوبل.
في الأيام المبكرة تلك كابدت مرحلة بوهيمية حيث التشرد و الصعلكة، لكنها كانت فترة قصيرة جدا استثمرتها في قصص لاحقة مضفياً عليها لمسات رومانسية. وجبات العشاء كانت تتألف من قهوة و قشدة، و الفنادق شهدت هروبي بعد إخراج الحقيبة من النافذة.
أنا أكسب المال على نحو سريع و بسهولة نسبية. لست غنياً و لا أعرف كيف أخطط لكي أصبح ثرياً، لأن ذلك لا يثير اهتمامي. و ليس لدي ميول تملكـيّة: أمر مزعج بالنسبة لي أن أمتلك أشياء. لا أحب اقتناء و حيازة أي شيء. سريعا أتخلـّص من الأقلام، ساعات اليد.. حتى خزانة الثياب المليئة تجعلني أرغب في رميها كلها خارجا.
أنا لا أعبث، لا آخذ إجازات، و لا أفهم شيئا عن القوارب. أما السيارات، فقد سبق أن قلت لك بأنها لم تعد تروق لي. لا رغبة لي في التملك، التجميع، الادخار، التخزين.
لا أحب:
الحفلات، المهرجانات،المقابلات، الموائد المستديرة، طلبات التوقيع على الأوتوغراف، السفر، الوقوف في الطابور، الجبال، المراكب، جهاز الراديو و هو دائر، الموسيقى في المطاعم، الموسيقى عموما (عندما يتعين علي أن أتحمّلها)، النكت، المشجعين في مباريات كرة القدم، الباليه، ملجأ الأيتام، الجبن الأزرق الإيطالي، الجوائز، المحار، الاستماع إلى الآخرين و هم يتحدثون عن بريخت مراراً و تكراراً، وجبات العشاء الرسمية، الخبز المحمّص، الخطب، تلقي الدعوات، عندما يطلبون مني تقديم النصائح، همفري بوجارت، الألغاز، رينيه ماجريت، دعوات حضور العروض الفنية، البروفات المسرحية، آلات الكاتبة الفونوغرافية، الشاي، البابونج، الكافيار، العرض المسبق لأي شيء، الدعوة للمثول أمام القضاء، الأفلام المعدّة للشباب، الأسئلة، بيرانديللو، الكعكة المحلاة، الأرياف الجميلة، الاشتراكات السنوية في المجلات، الأفلام السياسية، الأفلام السيكولوجية، الأفلام التاريخية، الالتزام و الإعفاء من الالتزام، صلصة الطماطم.
أحب:
الفصول، ماتيس، المطارات، الرز، أشجار السنديان، روسيني، الزهور، الإخوة ماركس، النمور، أن أحدّد المواعيد و بينما أنتظر أتمنى أن يتغيّب الشخص عن الحضور (حتى لو كانت امرأة جميلة)، توتو (الممثل)، أن لا أكون موجودا هناك، بيرو ديلا فرانشسكا، كل ما هو جميل في المرأة الجميلة، هوميروس، جوان بلوندل (ممثلة)، شهر سبتمبر، الحلوى البيضاء المعجونة بالفستق، الكرز، المؤخرات الجميلة على الدراجات الهوائية، القطارات، الوجبات الخفيفة في القطارات، أريوسطو (الشاعر و المسرحي)، الكلاب الصغيرة ذات الشعر الحريري، الكلاب عموما، رائحة الأرض الرطبة، رائحة القش، أشجار السرو، البحر في الشتاء، الأشخاص الذين يتحدثون قليلا، جيمس بوند، رقصة الخطوة، الأماكن غير الآهلة، المطاعم المهجورة، الكنائس الخالية، الصمت، أوستيا، رنين الأجراس، أن أجد نفسي وحيدا في أوربينو بعد ظهيرة يوم أحد، الريحان، بولونيا، فينيسيا، كل مناطق إيطاليا، ريموند شاندلر، النسوة العاملات في المباني كبوّابات، جورج سيمنون، تشارلز ديكنز، كافكا، جاك لندن، الكستناء المشوي، مترو الأنفاق، ركوب الحافلة، الأسرّة المرتفعة الكبيرة، فيينا (التي لم أزرها بعد)، الاستيقاظ من النوم، الذهاب إلى النوم، محلات البطاقات البريدية، أقلام رصاص فابر2، حفلة منوعات (فودفيل) قبل عرض الفيلم، الأسرار، الفجر، الليل، الأرواح، ويمبي، لوريل و هاردي، لانا تيرنر، ليدا جلوريا، جريتا جوندا، الممثلة التي تؤدي دور فتاة مستهترة في المسرحيات الهزلية، راقصات الباليه.
الإضاءة هي الجوهر الحقيقي للفيلم. في الفيلم –و قد سبق أن قلت هذا- الإضاءة هي أيديولوجيا، شعور، لون، نغمة، عمق، جو، سرد قصة. الإضاءة هي كل ما يضيف، يحذف، يختزل، يكثـّف، يثري، يخلق فوارق دقيقة، يؤكد، يلمّح.
الإضاءة تجعل المتخيّل أو الحلم قابلا للتصديق و مقبولا. من جانب آخر، تجعل الواقع خياليا و وهميا، تحوّل الرتابة اليومية إلى سراب. إنها تضيف شفافية، تقترح توترات و ذبذبات.
الإضاءة تحفر الوجه و تكتشفه أو تصقله. تخلق تعبيرا حيث لا يوجد أي تعبير. تهب البلادة مع الذكاء، و الشيء التافه و غير المشوّق تجعله يبدو مغويا.
الإضاءة ترسم محيط الجسد و تحدّد أناقته. تبجّل الريف الذي ربما لا يكون ذا قيمة بذاته. و تضفي سحراً على الخلفية.
الإضاءة هي المؤثر الخاص البارز، ضرب من الماكياج، البراعة في الخداع، الافتتان، مختبر الكيميائي، آلية العجائب.
الإضاءة هي ملح الهذيان الذي، مشتعلاً، يحرّر الرؤى.
كل من يحيا في الفيلم يحيا بواسطة الإضاءة. كل تصميم أوّلي للمناظر، أو تصميم فج و غير مصقول، يمكن بواسطة الإضاءة أن يكشف عن منظورات غير متوقعة، أو يغمس القصة في جو حاضن و مهدئ. بمجرد استبدال المصدر الضوئي القوي بالظلال، فإن تغيّر الإضاءة يمكن أن يبدد الإحساس بالألم و يحوّل كل شيء إلى حالة من الصفاء، الحميمية، الطمأنينة.
الأفلام مكتوبة بالإضاءة، تعبّر عن أسلوبها بواسطة الإضاءة.
* ما الذي تتذكره عن تأثير فيلمك “ساتيريكون” على الجمهور؟
– العرض الأول للفيلم كان في ماديسون سكوير جاردن بنيويورك، مباشرة بعد حفلة روك صاخبة. حضر العرض حوالي عشرة آلاف شخص. و كان بإمكانك أن تشم رائحة الهيروين و الحشيش من خلال دخان السجائر.
ذلك الجيش الخرافي من الهيبيين شكـّل مشهدا مذهلا، غير اعتيادي، و لافتا للنظر، حيث تراهم قادمين على دراجاتهم البخارية الرائعة و في سياراتهم المتعددة الألوان المضاءة كلها بالمصابيح. كان الثلج يتساقط، و ناطحات السحاب في مانهاتن كانت كلها مضاءة بينما الثلج الهاطل يتلألأ في الليل.
العرض كان ناجحا. الشبان صفقوا استحسانا لكل مشهد. الكثيرون ناموا، العشاق كانوا يمارسون الحب في الصالة. وسط الفوضى الشاملة استمر الفيلم بلا هوادة في تسليط صوره على الشاشة العملاقة التي بدت كما لو تعكس ما يحدث في الصالة. على نحو يتعذر التنبؤ به، على نحو غامض، في ذلك الجو و المحيط، بعيد الاحتمال، بدا أن ساتيريكون (الفيلم) قد وجد موقعه الطبيعي. الفيلم لم يعد ملكي، خاصاً بي، في ذلك الإفشاء المفاجئ لأسرار مفهومة ضمنا، لروابط دقيقة، متواصلة، غير منقطعة، بين روما الغابرة القاطنة في الذاكرة و ذلك الجمهور الرائع الذي ينتمي إلى المستقبل.
* كيف ينظر إليك الشبان؟
أنا لا أعرفهم. لا أعرف أين يكونون أو ماذا يفعلون. بإمكاني طبعا أن أحاول و اكتشف كل ذلك.. لكن مهمة كهذه، أليست فاترة و تثير الرعشة؟
إني أسأل نفسي، ما الذي حدث في نقطة معينة من الزمن، أي نوع من الشر قد صعق جيلنا بحيث صرنا فجأة نطل على الشباب و ننظر إليهم بوصفهم رواد ضرب من الحقيقة المطلقة؟
الشباب، الشباب، الشباب.. يبدو أنهم قد جاءوا على سفن فضائية. يعرفون كل شيء، لا يقولون لنا شيئا، لا يريدون أن نزعجهم بجهلنا، أخطائنا….
لا بد أن الرغبة الملحة هي التي تدفعنا لكي نرى الأشياء تبدأ من جديد، من البداية. و هناك إدراك بأننا تعرضنا للهزيمة بفعل افتقارنا للثقة بالنفس، هذا الذي يحثنا، على نحو صادم، أن نسلـّم كل المفاتيح إلى أولاد صغار لا يعرفون مطلقاً كيف يستخدمونها.
إنه أمر فاتن و رهيب التفكير في ما وقع من أحداث بين 1950 و 1970 و الذي أجبر أجيالا أكثر حكمة أن تتخلى عن نفوذها و تسلـّم سلطتها إلى جيل كفّ لتوه عن اللهو بالدمى.
وحده الجنون الجماعي قادر أن يجعلنا نعتبر فتية في الخامسة عشرة من العمر أسياداً لنا، و منبعاً لكل حقيقة.
لكن ما الذي يدفع العامل، الإنسان العادي، إلى إقرار القتل و القبول به؟ هل هو عقله الواهن، مشاعره البدائية؟ هذا يجعلنا نؤمن بأن في زوايا معينة من النفس، نحن لا نزال نحتفظ بالقسمات أو المعالم الوحشية لإنسان بدائي هو أقرب إلى الحيوان.
أنا لا أحترم أولئك الذين، باسم المنظور التاريخي، يطلبون منا أن نحجم عن إدانة الإرهاب لأن جرائم معينة ربما سوف تعتبر أفعالا وطنية في المستقبل. أنا لا أملك على الإطلاق ذلك النوع من الحس التاريخي. إنه منظور لا يعنيني تماما. ما يهمني هو العيش يوماً بيوم، و ما أستطيع أن أفعله وأنا حي، أما الباقي فإنه مجرد تخمين.
كنت أفضـّل لو جئت قبل مولدي بعشرين سنة. آنذاك كان بوسعي أن أصنع أفلاماً مع الرواد. إن مساهمتي في ولادة السينما ستكون مرضية لمزاجي و حساسيتي أكثر من الوصول بعد أن تم فرض قوانين الفيلم الخاصة: قوانين محتومة تجعلك مطـّلعاً و ملمّاً بالشروط الفنية و الثقافية لكنها تحرمك من ذلك الجو الضاج و المقلق، تلك البهجة الضارية التي ربطت السينما بالسيرك و جعلتها تبدو كجوهر رمزي لسحر الحياة.
أنا نادم لإضاعة الكثير من الوقت بين فيلم و آخر، و جعل بعضها تتحقق و أخرى تختفي، غير أني لا أتبرأ من شيء. يبدو لي أن الأمور قد سارت على ما يرام بالرغم من ميولي السلبية: الكسل، الإهمال، الجهل، التخبط هنا و هناك ، و لا أظن إنني أرجو أكثر من هذا.
لكن التعاون الأكثر قيمة، و أقولها بلا تردد، هو تعاون المؤلف الموسيقيّ نينو روتا. بيننا ذلك التفاهم الكلي و الشامل، بدءا من “الشيخ الأبيض”، الفيلم الأول الذي عملنا فيه معا. التفاهم بيننا لم يكن بحاجة إلى أداة ضبط أو تعديل من أي طرف. لقد قررت أن أصبح مخرجا سينمائيا و هو كان قريبا و متاحا، كما لو كان موجودا في الموضع الصحيح لكي أتمكن من متابعة مسيرتي السينمائية كمخرج.
نينو يتمتع بمخيلة هندسية و رؤية موسيقية جديرة بالعوالم السماوية، إلى حد أنه لم يكن يحتاج أن يرى ما سوف تبدو عليه أفلامي. عندما كنت أسأله أي الثيمات الموسيقية خطرت في ذهنه لهذا المشهد أو ذاك، يتضح على الفور أن أي مشاهدة تمهيدية أو عرض مسبق غير ضروري على الإطلاق. عالمه هو العالم الداخلي، الباطني، حيث لا يمكن للواقع أن يخترقه إلا بصعوبة و بجهد بالغ. كان يعيش الموسيقى بحرية و طمأنينة شخص يعيش في أبعاده الخاصة على نحو عفوي.
أنا حتى لا أقدر أن أصغي إلى شخص ينقر بأصابعه على الطاولة دون أن يعتريني فجأة القلق و الانزعاج، و اشعر بضيق في التنفس. أما نينو، فبوسعه أن يكون وسط فرقة تعزف على نحو ضاج واحدة من مقطوعاته، و مع ذلك يكتب نوتة ثيمة أخرى لا يسمعها أحد غيره.
ذات مرّة، هذه الشاشة هيمنت على مخلوقات ضئيلة كانت تحدّق مفتونة إلى وجوه هائلة، شفاه، عيون، تحيا و تتنفس في بُعد آخر لا يمكن بلوغه، وهمي و حقيقي في آن. أشبه بحلم. الآن تعلمنا أن نهيمن عليها. صرنا أكبر منها. أنظر إلى أي مدى استطعنا تصغيرها و تحويلها و إخضاعها. ها هي الآن بحجم وسادة، موضوعة بين المكتبة و الأصيص. أحيانا نضعها في المطبخ، قرب الثلاجة. لقد أصبحت خادمة منزلية كهربائية، و نحن الجالسين في استرخاء على الكراسي، المسلحين بجهاز التحكم عن بُعد (الريموت كونترول) نمارس سلطة كلية على تلك الصور الصغيرة، رافضين كل ما هو غريب و غير مألوف و مضجر بالنسبة لنا.
في صالة السينما، حتى إذا لم نكن نحب الفيلم، فإن سحر و جاذبية و حجم تلك الشاشة الهائلة تجعلنا نمكث جالسين أمامها حتى النهاية.. إن لم يكن بدافع آخر، فبسبب اقتصادي، ذلك لأننا دفعنا ثمن التذكرة. أما الآن، و بنوع من الثأر و الضغينة، عندما يطالبنا الشيء الذي ننظر إليه بانتباه و اهتمام أكثر مما نرغب في توجيهه و إبدائه، فإننا نسارع إلى الضغط على الزر لنخرس الشخص المتكلم، و نمحو الصور التي لا تثير اهتمامنا.
هنا نحن السادة. كم هو مضجر بيرجمان هذا. و بونويل.. من قال أنه مخرج عظيم؟ ليخرجا من بيتنا. نريد أن نشاهد المباراة أو الاستعراضات الغنائية.
هكذا وُلد المتفرج المستبد، الحاكم المطلق، الذي يفعل ما يريد، و يقنع نفسه أكثر فأكثر بأنه المخرج أو –على الأقل- منتج الصور التي يشاهدها. كيف يمكن للسينما أن تجذب هذا النوع من الجمهور؟ المنتجون و المخرجون الأمريكان يحاولون أسر انتباه جمهورهم المستقل، الحيادي، اللا مبالي عن طريق تقديم مشاهد تتسم بالأبهة و الفخامة، تحتوي على مغامرات مذهلة، كوارث كونية، سحر، رعب، أشياء لا يمكن التنبؤ بها، أشياء لم تُعرض من قبل و لم يُسمع عنها. باختصار، العودة إلى البداية، إلى سينما جورج ميليه، إلى المدهش و الخارق.
في هذه المشاهد الأمريكية الفخمة أجد نزوعاً إلى التزيين، الإبهار، الاهتمام بالمناظر و المؤثرات الحسية.. و كلها تعمل على إلحاق الأذى ليس فقط بالإحساس بالقصة، لكن أحيانا بالقصة نفسها. إنها السينما التي يختفي عنها المؤلف المبدع. إنها سينما المهندسين و تقنيي المؤثرات الخاصة.. هؤلاء هم الذين ينالون الإطراء و التصفيق الآن.
إذا كان عليّ تحديد استجابة الجمهور، المباشرة و غير المباشرة، فإنني بصراحة أجد صعوبة في تصنيف فيلمي. كيف يمكن حقا استرضاء مشاعر أولئك الذين علـقوا بأسف بعد مشاهدة الفيلم: “كم هو مخجل أن لا ينتهي الفيلم حين بدأت الأوركسترا تعزف كمجموعة متكاملة و متناغمة مرّة أخرى! لكن ما سبب إقحام الحوار الألماني؟ ما الغاية؟ ما الذي يعنيه ذلك؟”
كيف يمكن التوفيق بين الفيلم و الملاحظة المجنونة التي أبداها ذاك المعتوه (لابد أن يكون معتوهاً تماما حتى يفسر الفيلم بتلك الطريقة) و نحن في غرفة إيداع المعاطف بالمطعم، و فيما أرتدي معطفي، مال صوبي و همس في ارتياح وحشي قائلا: ” لقد شاهدت فيلمك.. أنا أساندك.. نحن حقا بحاجة إلى العم أدولف (هتلر) هن”.
سؤال مثير للقلق: هل بالإمكان، في أي وقت، أن يعرّض فيلم ما نفسه إلى خطأ شنيع إلى هذا الحد؟ ما الذي يعنيه ذلك؟ ما الذي يثير أو يحفز أو يكشف رد فعل بعيد جدا و غير متوقع على الإطلاق؟
في عالم اليوم، مع تقوّض البنى التنظيمية، و انهيار القيم و المعالم الهادية، يستجيب كل فرد منا، بهلع و تخبط، إلى التشوش و المرض و الشر الذي يحيط بنا. إننا نعمّم أمراضنا الذاتية و نسقط مخاوفنا و رغباتنا الشخصية على كل ما يحيط بنا.. سواء أكان فيلما أو حدثا.
ربما تلك هي الطريقة التي كان يتعيّن على الفيلم سلوكها من اللحظة التي عرض فيها الحالة الجنونية و الانحدار نحو اللاعقلانية. بما أن تلك الحالة كانت مروعة و رهيبة، فإننا نستجيب عن طريق اقتراح شكل من الجنون المؤسس المنظم، تماما كما في حالة الديكتاتورية.
مؤتمر صحفي
أن أجد نفسي محتجزا خلف طاولة مع ميكروفونين أو ثلاثة تحت أنفي، شارحاً سبب وجود وحيد قرن في فيلمي، ليس هو الوضع المفضل لدي. أشعر بانزعاج تام و أنا أتحدث عن ما فعلته. ينتابني الإحساس غير المريح عندما أدافع عن نفسي بتزيين فيلمي، تلوينه، زخرفته بالكلمات، مخترعاً المبررات في محاولة يائسة لمنحه عمقا فكريا و جدّة بصرية. و أنا أتعامل مع كل هذا بجدية تامة. لا أحاول أن أكون موضوعيا. لست مفعما بالحيوية و النشاط: الخلاصة.. أنا مريض.
أحيانا أحاول تفادي المؤتمرات الصحفية، لكن تصرفي هذا قد يبدو للبعض غطرسة و فظاظة، حتى بعض الأصدقاء يشعرون بالانزعاج و الضيق. لكن ذلك في الواقع مجرد جبن مني، إحساس بالانسجام، و لأنني لا أريد أن أكون مضجرا. إذا قلت أن ثمة وحيد قرن في فيلمي لأن اختصاصيين بحريين أكدوا لي أن في 1914 كان على كل سفينة أن تحمل وحيد قرن في عنبر السفينة، فإن الأصدقاء في الصحافة سوف يعتقدون، و هم معذورون، بأنني أحاول أن أروي نكتة. و لو قلت لهم، عوضا عن ذلك، أن في أحشاء السفينة، في أعماقها، يكمن ألهذا (الجانب اللاشعوري من النفس الذي يعتبر مصدر الطاقة الغريزية أو البهيمية)، يكمن لا وعينا، الجزء الحيواني منا و الذي يتخطى الزمن و المكان، و مع ذلك يساند و يعزز وجودنا، مرغما إيانا بالضرورة على التعايش معه، لو قلت هذا لشعر الجميع بالسعادة مع مثل هذه الإجابة، لكنني حتما سأشعر بشيء من السخف.
أنا أميل إلى أن يكون المؤتمر الصحفي صامتا بحيث نتطلع إلى بعضنا البعض، نتبادل الابتسام، نحيي بعضنا البعض بالتلويح بالأيدي، بل و نتبادل الهدايا، كل هذا دون أن ننبس بكلمة، بعدئذ يذهب كل واحد منا ليباشر عمله.
فدريكو فلليني:
ولد في 20 يناير 1920 بمدينة ريميني بإيطاليا، و توفى في روما، في 31 أكتوبر 1993 بعد إصابته بنوبة قلبية.
بدأ في كتابة السيناريو، لمخرجين آخرين، منذ 1943 و حتى 1952.
أفلامه كمخرج:
* أضواء حفل المنوعات (1950) بالاشتراك مع ألبرتو لاتوادا
* الشيخ الأبيض (1952)
* L’amore in città (1953)
* المتسكعون , Vitelloni (1953)
* الطريق La Strada (1954)
* المحتالون )1955)
* ليالي كابيريا (1957)
* الحياة الحلوة La Dolce Vita (1960)
* بوكاشيو 70 (جزء – 1962)
* ثمانية و نصف (1963)
* جولييتا و الأرواح (1965)
* قصص غير عادية أو أرواح الموتى (جزء – 1968)
* Fellini: A Director’s Notebook (1969)
* ساتيريكون (1969)
* المهرجون (1971)
* روما (1972)
* أماركورد (إني أتذكر – 1973)
* كازانوفا فلليني (1976)
* بروفة أوركسترا (1978)
* مدينة النساء (1980)
* السفينة تبحر (1983)
* جنجر و فرد (1986)
* المقابلة (1987)
* صوت القمر (1990)
تنبيه Pingback: وما أدراك ما (فيلليني)… – أبو روما