الطريق – La Strada
يروي الفيلم قصة (جلسومينا) الفتاة البسيطة، غريبة الأطوار التي تبيعها أمها تحت وطأة الفقر إلى الرجل القوي (زامبانو) لكي تعمل معه فيما يشبه السيرك المتجول. قسوة معاملة (زامبانو) لها وشخصيته الفظة تصيبانها بالحزن وتدفعانها لمحاولة الهرب دون جدوى. إلى أن تقابل أحدهم في أحد عروض السيرك فيغير من تفكيرها ويجعلها تنظر للحياة بصورة مختلفة.
قصة مأساوية ودراما إنسانية بديعة لا تخلو من لمحات كوميدية.
أبطال العمل:
(أنطوني كوين): لا يختلف إثنان على قدر موهبة هذا الفنان العملاق، ولكنه هنا يتفوق على نفسه في فهم شخصية (زامبانو) وأبعادها النفسية، فأنت تكرهه بعمق في لحظات قسوته وفظاظته ويلين قلبك له في لحظة انكساره غير المتوقعة.
كثير من النقاد يضعون دوره في “La Strada” تالياً لدوره في رائعته الخالدة “Zorba The Greek” كأفضل أدواره على الاطلاق.
(جولييتا ماسينا): زوجة (فيلليني)، قدمت دور (جلسومينا) الفتاة الساذجة محدودة الوعي والتفكير بعذوبة وسلاسة شديدتين دون أدنى تكلف. وساعدها تكوينها الجسماني الضئيل وملامح وجهها على تجسيد دور الفتاة أو الطفلة الكبيرة التي لم تخبر الحياة بعد.
تتعاطف معها منذ لحظة ظهورها وحتى النهاية، ترأف لحالها ولكن لا تملك لها بالنهاية سوى الرثاء فهي تمثل المرأة المقهورة بسبب الفقر وقسوة الرجل.
(ريشارد بيزهارت): برز دور (المجنون) كالنقيض الموضوعي لدور (زامبانو)، حيث كان بوجهه الضاحك دائماً وحديثه الحاني مع (جلسومينا) العامل الملطف لقسوة القصة، برغم ما في قصته هو من لمحات جزينة.
يأتي مشهده المطول مع (جلسومينا) بمضمون فلسفي حول الحياة وقيمة الانسان والحب والموت أيضاً، وهو الذي أوحى لها بأن (زامبانو) يحبها لكي تبقى معه.
مخرج الفيلم: فيدريكو فيلليني (تدوينة سابقة)
رؤية وتحليل:
كسائر أفلام الواقعية الإيطالية الجديدة، البساطة هي العنوان الرئيسي والمباشرة دون اللجوء للرمزية وهذا يجعلها الأقرب لقلب وعقل المشاهد كما أسلفت. لكني خرجت من بساطة هذا الفيلم بالكثير من المعاني والأحاسيس، وربما كان السهل الممتنع الذي يطرح بداخلك تساؤلات عن معان عميقة، عن فلسفة الحياة وعن أقدارنا فيها.
يحتوي الفيلم على مشهد ذو حوار طويل وبديع، يحمل الفكرة الرئيسية للفيلم وكما ظهر في فيلم “La Ciociara” أو “امرأتان” للعظيم (فيتوريو دي سيكا) كان هناك مشهد المائدة ومشهد اختباء أهل القرية من القصف. هنا يوجد مشهد طويل به حوار مطول أيضا بين (المجنون) لاعب الأكروبات وبين (جلسومينا) حيث يتحدث معها عن الحياة والموت بطريقة لا تخلو من فلسفة ويبدأ في الايحاء إليها – من وحي خياله – بأن (زامبانو) يحمل لها مشاعر الحب على عكس ما يبدو منه تجاهها.
من الصعب جداً عند مشاهدة الفيلم ألا تقع في تعاطف وحب لشخصية (جلسومينا) التي تجسدها ببراعة (جولييتا ماسينا). سذاجة الفتاة الريفية المنعدمة الخبرة بالحياة والتي تعاني كما يبدو من قصور في التفكير العقلي بفعل الفقر وسوء التغذية وهذه حقيقة علمية. البراءة والصدق في المشاعر والضعف الانساني يقابلها فظاظة شخصية (زامبانو) الاستغلالية الأنانية. هذا التضاد التام الذي ربما سيصل لنقطة التلاقي ولكن بعد فوات الاوان وهكذا هي الحياة.
بعد وقوع الحادث المأساوي في النصف الثاني من الفيلم، تظهر أجواء الشتاء الرمادية القاتمة على الطريق إلى أن تصل للجليد القارس كرمزية بسيطة عن حالة الاحساس التي يريد (فيلليني) أن يصل بها إلينا والتي ستتسرب إليك دونما عناء. ومشهد الأشجار الخالية من الأوراق كالقلب الذي تسربت منه الحميمية وحل محلها الصدمة والخوف.
برغم شبه الاجماع بين النقاد ومحبي السينما على عبقرية (فيلليني) في هذا الفيلم إلا أن البعض حاول اقحام رمزيات واسقاطات لا مبرر لها على الفيلم، وهنا أختلف مع هذا الطرح بشكل كبير، فلعدة أسباب أستطيع الجزم ببساطة الفكرة وبواقعيتها دون الغوص في أي رموز أو سيريالية كان (فيلليني) ولا يزال أعظم من تفنن فيها، ولكن ليس في هذا الفيلم.
أولاً: هناك البعد التاريخي حيث ظهر الفيلم في أوج تالق مدرسة الواقعية الايطالية وبالاضافة إلى ذلك فإن (فيلليني) لم يكن ليجازف بفيلم يحمل قدرا من التعقيد بعد أن فشل فيلمه السابق لهذا تجاريا وبعد أن غرق في الديون لدرجة أنه ظل يسدد ديونه من نجاحات فيلم “La Strada” والفيلم الذي تلاه أيضاً “Le Notti di Cabiria”.
ثانياً: أنه لكي تخرج الرمزية والاسقاطات المفترضة من فيلم بهذه البساطة، فإنك ستقع لا محالة في فخ الاغراق في الغموض الشديد في تفسيرك لتلك الرمزية بما يجعل الفيلم يبدو صعب الاستيعاب أو الفهم وهو في الحقيقة أبسط من ذلك بكثير.
ثالثاً: أن افتتان جمهور السينما ب (فيلليني) وتاريخه وعبقريته، جعلهم مقتنعون باستحالة أن يخرج هذا العبقري فيلماً سهلاً دون مغزى فلسفي أو تعقيدات او اسقاطات ذاتية كما فعل في فترة توهجه الذهبية في ستينات القرن الماضي.
وتبقى ملاحظة تتعلق بدوبلاج الحوار الخاص بدوري (زامبانو) و (المجنون) حيث من الواضح أن (أنطوني كوين) و (ريتشارد بيزهارت) لا يتحدثان الإيطالية. هذه النقطة تحديداً كانت تقلقني قبل مشاهدة الفيلم لكني كنتُ مخطئاً حيث لم تشكل عائق أو عامل سلبي كما تصورت. فالقصة تأخذك بعيداً وتعتاد نبرة صوت الممثلين سريعاً.
السينما الإيطالية لها عدد كبير جداً من الروائع لكبار المخرجين بنفس التقنية، روائع (لوتشيانو فيسكونتي) و كثيرا ما استخدمها (بيرتولوتشي) وبدرجة أقل (أنطونيوني) ومعهم بالتأكيد (فيلليني). وللأخير أذكر ذات مرة أنني قرأت له رداً على هذه المسألة فيقول أنه لا يرى فيها مشكلة كبيرة لأنه يقدم صورة بالدرجة الأولى والعين تكون مسيطرة على باقي الحواس بدرجة كبيرة. فلا يهمه مثلا أن يضيف صوت وقع الأقدام لصورة الممثل وهو يمشي لأن العين ألصقت بالعقل فكرة أن هذا الممثل يمشي فلا حاجة لذلك.
بهذا الفيلم وضع (فيلليني) قدمين راسختين في السينما العالمية خاصة بعد فوزه بأرفع جائزة عالمية “الأوسكار”. فتشجع المنتجون لأفلامه وأصبح لديه قدر أكبر من الحرية ليطلق العنان لخياله وليكتب تاريخاً ناصعاً وليحقق زخماً قلما حظي به مخرج آخر.
والأثر الأهم لانطلاقته، كان انقلابه على المدرسة التي اشتهر من خلالها، الواقعية الجديدة، وساهم هو بجانب العبقري (مايكل أنجلو أنطونيوني) وغيرهم، في هدم تلك المدرسة، لتطوى صفحتها. وبجانب ظهور الموجة الفرنسية الجديدة، تبدأ موجات متتالية في تغيير خارطة السينما العالمية لتجعل من عقد الستينات – في رأيي – أزهى عقود السينما في القرن الفائت.
معلومات عن الفيلم:
سنة الإنتاج: 1954
دولة الإنتاج: إيطاليا
لغة الفيلم: الإيطالية
زمن الفيلم: 108 دقيقة
انتاج: (كارلو بونتي)
موسيقا: (نينو روتا)
جوائز حصل عليها الفيلم:
فاز الفيلم بجائزة الأوسكار الأولي في التاريخ التي تمنح لأفضل فيلم أجنبي وكان قبل ذلك تمنح جائزة شرفية فقط. كما ترشح أيضاً عن أفضل سيناريو كتب خصيصاً للسينما مناصفة بين (فيلليني) و (توليو بينيللي).
فاز (فيلليني) بجائزة الأسد الفضي (أفضل مخرج) من مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي مشاركة مع أربعة مخرجين من بينهم العملاق (كوروساوا) عن رائعته “الساموراي السبعة”.
كما ترشح الفيلم لجائزة أفضل فيلم أجنبي في جوائز البافتا البريطانية.
شريف حداد – موقع الد في دي العربي